حرب السودان تحول المقار الإعلامية إلى ثكنات عسكرية ومراكز اعتقال

حرب السودان تحول المقار الإعلامية إلى ثكنات عسكرية ومراكز اعتقال

19 ديسمبر 2023
اندلعت الاشتباكات في 15 إبريل (فرانس برس)
+ الخط -

بعد اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في منتصف إبريل/ نيسان الماضي، تحولت العاصمة الخرطوم، حيث المقار الرئيسية لوسائل الإعلام المختلفة، إلى ساحة معركة، وتوقف عمل هذه المؤسسات، علماً أنه خلال أيام الاشتباكات الأولى احتجز داخلها العديد من الصحافيين، قبل أن تصبح عرضة للاقتحام والنهب والتدمير، وتحول بعضها إلى ثكنات عسكرية ومراكز اعتقال.

وفي 15 إبريل، اليوم الأول للاشتباكات، وجدت الصحف ووكالات الأنباء والقنوات الفضائية ومكاتب الصحافيين نفسها وسط النيران، نتيجة وقوع معظمها في قلب الخرطوم، في المنطقة التي تضم القيادة العامة للجيش والقصر الجمهوري وعدد من الوزارات والمؤسسات الحكومية والأمنية، حيث دارت أعنف المعارك.

وكان مبنى هيئة الإذاعة والتلفزيون، الواقع على ضفة نهر النيل في مدينة أم درمان، أبرز المقار الإعلامية التي تعرضت للاحتلال من قبل قوات الدعم السريع، فقد كانت تشارك أصلاً في عملية تأمين المبنى. واعتقل عدد من العاملين في الهيئة واحتجزوا داخلها لأيام قبل إطلاق سراحهم لاحقاً.

ونبهت نقابة الصحافيين السودانيين، في بيان أصدرته في السابع من ديسمبر/ كانون الأول الحالي، إلى أن "قوات الدعم السريع حولت مباني الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون في مدينة أم درمان إلى مقرات اعتقال"، نقلاً عن شهود اعتقلوا هناك. وأضافت النقابة: "لم تقف تلك الجريمة النكراء عند ذاك الحد، بل امتدت -وفقاً لشهادات موثقة- لعرض أجهزةٍ تخص الإذاعة السودانية للبيع بأسواق مدينة أم درمان".

ووصفت النقابة ما حدث بأنه سلوك غير مسؤول، ويعرض إرث البلاد التاريخي لخطر الدمار والخراب والاندثار للأبد، وأشارت إلى أن قناتي سودانية 24 والبلد، في الخرطوم، تعرضتا للتخريب ولنهب معداتهما، كما نهب مكتب قناة بي بي سي في الخرطوم، وشوهدت معدات تخص قناة النيل الأزرق معروضة للبيع في سوق "ليبيا" في مدينة أم درمان.

وأكدت نقابة الصحافيين رفضها بشدة تحويل المؤسسات الصحافية والإعلامية في السودان إلى ثكنات عسكرية أو مقرات اعتقال، وطالبت قوات الدعم السريع بالخروج الفوري من تلك المؤسسات.

وقال الإذاعي عباس محمود، الذي احتجزه عناصر من قوات الدعم السريع داخل مبنى الإذاعة، في حديث لـ"العربي الجديد"، إنه حضر إلى مكان عمله صباح 15 إبريل قبل ان تبدأ المعارك ويصعب عليه مع 5 أشخاص آخرين الخروج، مضيفاً أن العناصر منعوهم بعدها من المغادرة واحتجزوهم داخل الاستديو، و"كان الوضع سيئاً"، إذ لم يكن في حوزته وزملائه سوى الماء، وكانوا صائمين.

وذكر محمود أن مقاتلي قوات الدعم السريع كانوا يبقون معهم دائماً داخل الاستديو ويطلبون منهم بث أناشيد وطنية، ثم ذهبوا وتمركزوا في الخارج. وأضاف: "أوقفنا الإذاعة، وبعدها صار يأتي إلينا أشخاص بزي مدني يحملون بيانات سياسية مسجلة صوتياً على حواسيب محمولة ويطلبون منا بثها، فكنا نبثها داخل الاستديو ليسمعوها، ونخبرهم بأننا فعلنا، لكننا لم نكن نبث على موجة الإذاعة". 

وأشار محمود إلى أنه بعد سبعة أيام فكر في حيلة للهروب، فطلب من العناصر هو وزميل آخر أن يسمحوا لهما بشراء دواء من الصيدلية القريبة، فسمحوا لهما شرط العودة سريعاً، لكنهما تمكنا من الدخول في الأزقة والفرار. أما الباقون فنقلوا إلى مسجد الإذاعة، حيث مكثوا لنحو 25 يوماً، قبل أن يطلق سراحهم نتيجة ضغوط مكثفة، وقال إنه علم لاحقاً بأن معتقلين آخرين أحضروا واحتجزوا في المبنى.

كما تعرضت أبراج العمارة الكويتية في الخرطوم للاحتلال من قبل قوات الدعم السريع منذ الأيام الأولى للمعارك. وهي تقع على ضفة النيل الأزرق قريباً من القيادة العامة للجيش، وتضم مكاتب مجموعة من المراسلين الصحافيين ووسائل الإعلام.

وأفادت وكالة تانا فورميديا، التي يقع مكتبها في المبنى، بأن عدداً من منسوبيها ظلوا عالقين هناك لأيام تحت الرصاص قبل أن يتمكنوا من الخروج.

وأضافت الوكالة، في بيان أصدرته في 11 أغسطس /آب الماضي، أن وضع مكتبها ظل مجهولاً لأشهر، قبل أن "تفاجأ بصورة لقناص يتبع لقوات الدعم السريع يضع سلاحه داخل صالة الأخبار قبالة شرفة المكتب، مستخدماً معدات الوكالة لإعداد منصة سلاح، وهو ما يمثل انتهاكاً صريحاً لكل القوانين والأعراف التي تحرم استخدام المنشآت المدنية أثناء الحروب". وحملت الوكالة قوات الدعم السريع المسؤولية عن "سلامة معداتنا وأجهزتنا والخسائر التي تتعرض لها".

من جانبها، قالت رئيسة تحرير "مدنية نيوز" عائشة السماني، لـ"العربي الجديد"، إن عناصر من قوات الدعم السريع اقتحموا مكتب الصحيفة الإلكترونية في حي "الخرطوم 3"، بعد كسر أقفال باب الشقة ونهب الممتلكات، وأن بعض الجيران اتصلوا بها وأخبروها بما حدث.

وأشارت إلى أنهم فقدوا وثائق وأجهزة حاسوب وكاميرات ومعدات أخرى، وأكدت أنهم لم يتمكنوا من الوصول إلى المكتب بسبب استمرار المعارك، إذ يقع في منطقة خطيرة وقريبة نسبياً من القصر الجمهوري.

وكشف مدير تحرير صحيفة الحراك السياسي اليومية محجوب عثمان، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن قوات الدعم السريع اقتحمت واحتلت في بداية مايو/ أيار الماضي مباني الصحيفة ونهبت جميع معدات العمل وأثاث المكاتب، وأشار إلى أن "النهب حدث بالرغم من وجود لافتة تبين أن المقرر مملوك لصحيفة، ما يعني أن هناك استهدافاً متعمداً لأجهزة الإعلام".

وأضاف أن "الحراك السياسي" نشرت قبل الحرب خبراً حول طلب جهاز الأمن السوداني من قوات الدعم السريع إخلاء مقاره التي تستخدمها، ما أدى إلى اعتقال الصحافي الذي كتب الخبر وفتح بلاغ بحق الصحيفة.

وذكر عثمان أن ما حدث للصحيفة بعد نشر الخبر يعزز فرضية أن نهب واقتحام مقرها كان مقصوداً، وأشار إلى أن الاستهداف لمقار وسائل الإعلام وبيع أدواتها ساهم في غياب الإعلام المسؤول والملتزم عن الساحة، وأدى في المقابل إلى انتشار الشائعات.

بدورها، أوضحت سكرتيرة الحريات في نقابة الصحافيين السودانيين إيمان فضل السيد، لـ"العربي الجديد"، أن الصحف والمؤسسات الإعلامية خرجت عن العمل منذ اليوم الأول للحرب، إذ تقع غالبيتها في مناطق الاشتباك في محيط المنطقة العسكرية، ووجد الصحافيون أنفسهم بلا عمل ومستهدفين ومطاردين من قبل طرفي الصراع الذين ينظرون للصحافي على أنه مجرم، "لأنه يحاول إظهار الحقائق التي يريدون إخفاءها وتدليسها وراء الشائعات والأخبار المفبركة". 

وأضافت أن المؤسسات الإعلامية دمرت بشكل شبه كامل، وهو ما "نعتقد أنه لا يأتي فقط في إطار التدمير الذي أحدثته الحرب في المرافق والمؤسسات الخاصة والعامة، بل ينطوي على رغبة حقيقية من الطرفين في ممارسة التدمير الكامل للإعلام كقيمة إنسانية، من خلال تدمير مؤسساته التي تحول معظمها إلى ثكنات عسكرية".

وأشارت إلى أن عدد الانتهاكات التي وثقتها النقابة، والتي طاولت مقار ومؤسسات إعلامية، بلغ 28 حالة انتهاك، من بينها ما طاول الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون التي تحولت لأكبر معتقلات قوات الدعم السريع، وفقاً لإفادات أشخاص كانوا محتجزين بداخلها. وأضافت: "نتوقع المزيد من الانتهاكات مع استمرار هذه الحرب العبثية".

وهذا يطرح، حسب سكرتيرة الحريات في نقابة الصحافيين السودانيين، "عدة تساؤلات في أذهان الصحافيين حول الحماية من الاستهداف، وخطاب الكراهية والانتهاكات، وإيجاد صحافة مهنية في ظل الحرب وغيرها"، ورأت أن الإجابة عن هذه الأسئلة لا تتحقق "إلا في إطار كلي في البحث عن مخرج للسودان وأهله من الحرب وتداعياتها".

وشددت على أنه "نتطلع إلى دعم الإعلام وإيجاد مؤسسات بديلة تملأ الفراغ الذي أحدثه غياب المؤسسات الإعلامية وخروجها عن سوق العمل، حتى تتم السيطرة على الأقل على خطاب الكراهية الذي أصبح متفشياً، حتى لا تتدمر البنى الاجتماعية بعدما دمرت الحرب البنى التحتية"، وفقاً لقولها.

المساهمون