هل تستعيد أوروبا استقلالها الاقتصادي في مواجهة الصين وأميركا؟

هل تستعيد أوروبا استقلالها الاقتصادي في مواجهة الصين وأميركا؟

01 مايو 2024
ماكرون خلال إلقائه خطاباً حول أوروبا في جامعة السوربون، 25 إبريل 2024 (فرانس برس)
+ الخط -
اظهر الملخص
- الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يجدد دعواته لأوروبا بضرورة تحقيق الاستقلالية الاقتصادية والإنتاجية، مؤكدًا على أهمية الاستقلال في مواجهة السياسات الأميركية والتحديات الجيوسياسية الجديدة.
- يشير ماكرون إلى الحاجة لتوطين الصناعات وتقليل الاعتماد على القوى العالمية مثل الصين والولايات المتحدة، داعيًا إلى تحسين دمج الأسواق الأوروبية ودعم الشركات الناشئة.
- يؤكد على أن الاستقلالية الاقتصادية والإنتاجية لأوروبا هي السبيل لتحقيق سيادة حقيقية ومواجهة التحديات الجيوسياسية والاقتصادية الراهنة، معبرًا عن رفضه للتبعية للولايات المتحدة.

أعاد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون التذكير بتحذيراته حيال ما ينتظر أوروبا، مشددا على ضرورة الاستقلالية الاقتصادية والإنتاجية للقارة، إثر صدمة الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي (بريكست)، وظهور تعارض واضح مع اتجاهات الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في سبيل حماية الشركات الأميركية.

جاءت رسالة ماكرون الأخيرة في جامعة السوربون، قبل أيام، واضحة قائلا: "علينا أن نأخذ أوروبا إلى مستوى جديد كليا". فالتبعية للولايات المتحدة مرفوضة عند ماكرون، وخصوصا في مجال الثقة بواشنطن حين يتعلق الأمر بالمنافسة مع الأميركيين وانتهاجهم سياسات دعم حكومي لشركاتهم بما يؤثر على عدالة التنافس مع الشركات الأوروبية.

فكرة التبعية لأميركا تؤرق باريس وغيرها ممن لا يتحدثون بصوت مرتفع ومسموع مثلما فعل ماكرون في مرتين، الأولى في 2017 والثانية أمام السوربون، الخميس الماضي، وقبل انتخابات البرلمان الأوروبي بأسابيع قليلة.

تفسير الخطاب الجديد على أنه جزء من حملة انتخابية يقودها ماكرون، على ضوء التقدم البارز لجناح اليمين المتشدد في حزب التجمع الوطني اليميني الشعبوي، المتوقع حصوله على نحو 32% من أصوات ناخبي فرنسا إلى برلمان القارة في يونيو/ حزيران القادم، لا تلغي أن خطاب الرجل الأخير موجه إلى كل الأوروبيين، وليس فقط للناخبين الفرنسيين الذين يبدو أنهم يديرون ظهورهم وفق الاستطلاعات الأخيرة، ومن بينها استطلاع شركة "ايبسوس" لقياس الرأي لحزبه النهضة الليبرالي، بحيث لا تعطيه الاستطلاعات أكثر من 16%، في حين بلغت نسبة التصويت المتوقع للحزب الاشتراكي الفرنسي 13%.

في خطابه السابق عام 2017 في أعقاب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بعد التصويت على بريكست 2016)، وانتخاب دونالد ترامب في أميركا، تحدث ماكرون عن مفهوم "الاستقلال الاستراتيجي"، محذراً من انتهاج الحليف الأميركي مساراً انعزالياً، ومشدداً على فكرة امتلاك الأوروبيين القدرات على اتخاذ قراراتهم المتعلقة بمصالحهم الاستراتيجية بعيداً عن التشكيك في الالتزام الأميركي المستمر بحلف الأطلسي. الموقف لقي بعض التأييد من المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل في سياق تشكيك ترامب آنذاك ببقاء بلاده على الخط "الحمائي" نفسه الذي انتهجته مع حليفتها الأوروبية في الحرب العالمية الثانية، وطرح فكرة المال مقابل الحماية.

وفي خطابه الأخير في جامعة السوربون، ذهب منطق ماكرون إلى أبعد من ذلك. فقد أصر الرجل على أن أوروبا ينبغي لها أن تتعلم كيف تكون لها طموحات خاصة بمصالحها، وألا تعرض نفسها لنقاط الضعف من خلال الاعتماد على لاعبين عالميين كبار. بل لا ينبغي لأوروبا ببساطة أن تخشى الاعتراف "بأننا (الاتحاد الأوروبي) اليوم أكثر من مجرد سوق لكل شيء، من المكسرات إلى السفن، والنقانق، وتوربينات الرياح". إذ يرى ماكرون أنه على أوروبا أن تتبنى مفهوم "الاستقلال الذاتي الاستراتيجي"، وخصوصا على ضوء الحرب الروسية في أوكرانيا وتغير كبير يطرأ على مسار القارة العجوز الجيوسياسي.

اليوم تبدو أطروحات ماكرون ذات صدى ونغمة مختلفين عن تصريحاته السابقة، التي وصفت بأنها عبرت عن "تضخم ذاتي فرنسي"، إذ أصبح النقاش سائداً منذ 2022 في بروكسل. فمسار الحرب في أوكرانيا يبدو مؤثراً على قراءة أوروبا لنفسها، وخصوصا أنها اعتبرت الغزو الروسي لذلك البلد بمثابة "حرب على أرض أوروبا"، وانخرطت في اقتصاد حرب لتعزيز صناعاتها الدفاعية والقيام بخطوات تجييش غير مسبوقة على مدار أكثر من ثلاثة عقود من انطفاء الحرب الباردة.

وفي خطابه أمام السوربون ركز ماكرون على الاقتصاد، من بوابة أن القارة العجوز بحاجة إلى استثمارات دفاعية مشتركة، وعلى تحمل الديون المشتركة لتحقيق الاستثمارات تلك، وتساءل: "كيف يمكننا بناء سيادتنا واستقلالنا إذا لم نتحمل حتى مسؤولية تطوير صناعتنا الدفاعية". ما يريده ببساطة هو أوروبا قادرة على فرض قروض مشتركة، وبالتأكيد الألمان لا يروق لهم ذلك.

ومع ذلك اقتنص ماكرون الفرصة، لأنه يدرك ما يدور في أروقة وكواليس نقاشات القارة، وخصوصا لناحية البعد المالي والاقتصادي، الذي يشاهد النزيف الأوكراني وانهيارات الصناعات الدفاعية الأوروبية، على الأقل العاجزة عن مجاراة سد عجز مخازنها وتأخر صناعاتها العسكرية مع استمرار دعم الجهد العسكري والاقتصادي الأوكرانيين. ومع أن واشنطن خصصت متأخرة حزمة مساعدات ضخمة لكييف، فإن العلاقة بين حليفي ضفة الأطلسي (أميركا وأوروبا)، ليست على ما يرام.

إمكانية موت أوروبا بالنسبة لماكرون ترتبط بتلك القضية المتعلقة بعلاقة القارة بحليفها الأميركي. الرجل ضمنيا يقول للأوروبيين: لا يمكننا أن نثق بالأميركيين عندما يتعلق الأمر بالمنافسة العادلة والإعانات الحكومية. يشير في ذلك إلى برامج المساعدات الحكومية الضخمة التي يقدمها الأميركيون والإعفاءات الضريبية للصناعات الاستراتيجية، ما جعل مثيلاتها في القارة الأوروبية تعيش ما يشبه حالة سبات أثرت سلبياً على أسواقها الرأسمالية والشركات الأوروبية. لذا يقترح الرئيس الفرنسي "دمج الأسواق الأوروبية بصورة أفضل" وطرح خطط الدعم الخاصة لمساعدة الشركات الناشئة والمبتكرة "إذا أردنا تجنب المزيد من التخلف عن الركب".

اقتصاد دولي
التحديثات الحية

صحيح أن ماكرون منشغل بعدم تحول أوروبا إلى تابعة للولايات المتحدة، لكن المسألة أكبر من ذلك. ففي سياق عالمي يرى الرئيس الفرنسي أن أوروبا التي اكتشفت في فترة جائحة كورونا اعتمادها الكبير على الصين، برغم أنها حققت أداء أفضل في مواجهة كورونا عن بقية الأطراف، مثل أميركا وبريطانيا والصين نفسها، وخصوصا لناحية الصناعات الطبية، من الحبوب المسكنة إلى الأقنعة ومعدات الحماية الأخرى.

لذا يرى ماكرون أن أوروبا التي تعتمد على صناعات الأطراف الأخرى "تحتضر"، وأنه لا بد من توطين صناعاتها بما يكفل بعض الاستقلالية. اليوم يعيش الأوروبيون على وقع تهديد الصين بإمكانية حجب البارود الذي تحتاجه الصناعات العسكرية الأوروبية لإنتاج الذخائر، وغيرها من المنتجات الحيوية، التي تتأخر أيضا بفعل أزمات سلاسل التوريد القائمة، سواء عبر البحر الأحمر أو ازدحام قناة بنما، بحسب ما ذكرت صحيفة "بوليتيكو" الأميركية أخيراً.

اقتصاديا لا يمكن القول إن أوروبا لم تحقق الكثير، وبأنها تموت بالفعل، بل هي إشارات تحذيرية تدعو القارة إلى العودة نحو صناعاتها الوطنية، وتحقيق استقلالية عن كل الأطراف الدولية التي يمكن أن تؤثر أو تقيد حرية إنتاجها وقدراتها المستقبلية. فمع مرور نحو 20 عاماً، اليوم، على انضمام جمهورية التشيك ودول البلطيق والمجر ومالطا وبولندا وسلوفاكيا وسلوفينيا إلى الأسرة الأوروبية، يمكن اكتشاف أن تلك الدول حققت قفزات جدية على المستوى الاقتصادي، تحت المظلة الأوروبية، وهو ما يراهن عليه ماكرون والمؤيدون له بأصوات منخفضة في أوروبا، بسبب عدم الرغبة في الدخول في تشنج العلاقات بالقوى الكبرى، كالصين وأميركا.

في تلك الدول التي يمر عقدان على عضويتها يقدم الأوروبيون صورة نجاح باهر في معايير السياسة الاقتصادية. فتوسيع الاتحاد الأوروبي يجعله اليوم أقوى من السابق. وعلى سبيل المثال فإن بولندا، بحسب دراسات وتقارير اقتصادية حديثة، أصبح شعبها أكثر ثراء بنحو 40% حالياً عما كان عليه الأمر قبل الانضمام إلى المعسكر الأوروبي. ولا يمكن إغفال أن المستشار الألماني أولاف شولتز أبدى أخيراً إعجابه وتأييده لخطاب ماكرون، بعد أن وجدت علاقة الطرفين بعض البرودة.

المساهمون